جولي مهريتو

جولي مهريتو

 

نوفمبر 2023

 

 في يوم صيفي مشمس في أديس أبابا، اصطحبني صديقي دغماوي ووبشيت بالسيارة إلى جبل إنتوتو وهو الأعلى في سلسلة جبال يطلق عليها الاسم ذاته، والنواة الأولى لنشأة المدينة. تترامى مدينة أديس أبابا على هذه المرتفعات الإثيوبية الخضراء المحازية للتلال والوديان، وقد كستها أشجار الأوكالبتوس التي تعد مصدراً أساسياً لتجدد الحياة فيها. استقدم هذه الأشجار إلى البلاد الإمبراطور منليك الثاني، وزُرِعت في عهد هيلا سيلاسي. وتعتبر إنتونو أرضاً مقدسة، وهي أيضاً الموقع التاريخي للبلاط الإمبراطوري والعديد من الأديرة والكنائس. في كل مرة أزور فيها إنتوتو في أديس أبابا، أشعر وكأنني أسافر عبر الزمن والذاكرة والكون؛ حيث يثير الصعود إلى السحب، بمعناه الحرفي والمجازي، إحساساً عميقاً بالتاريخ والمعرفة، إحساساً ترسمه الأشجار المحيطة والتربة والهواء والروائح.

 

إنتوتو هي موطن الرسام هينوك ملكامزر. حين وصلنا كان هو وإليزابيث جورجيس وآخرون في الخارج. لا تزال تفاصيل تلك الزيارة ماثلة في ذهني بوضوح، مستعيدة ابتسامته المؤثرة، عيناه السوداوان العميقتان، وسلوكه الهادئ الذي لا يبدو خجولاً بل واثقاً وراسخاً مثل بوداسف (مستنير بوذي). رحب بنا هينوك بمودة وعذوبة. بعد إلقائه التحية على الجميع، جلس على كرسيه مستنداً إلى جدار بيته. لم يكن يتحدث كثيراً، لكنه كان يبتسم بمودة ويومئ برأسه في كل مرة أحاول التحدث معه أو أنظر نحوه. كان نقاء الهواء ملحوظاً  جراء أشجار الأوكالبتوس ويمكن سماع أصوات الأطفال وهم يلعبون في الخارج. كان هينوك يتمتع بنوع من الثقة المتوثبة والتواضع في آن معاً، وهو أمر مألوف في إثيوبيا. 

 

بعد تمضية بعض الوقت في التمتع بأشعة الشمس والتواصل مع الآخرين، اصطحبنا إلى مرسمه وبدأ يُخرج متأنياً بعض اللوحات إلى النور. كانت لوحات شائكة وقوية وملونة على نحو مثير للبهجة، إلى جانب أنها منمّقة بعناية فائقة تصوّر عيوناً متداخلة مع أشكال وهندسيات مختلفة، بالإضافة إلى كروم العنب، وجانبها التزييني المتمثل بالأرقام والرموز. هذه التفاصيل مألوفة لأي شخص يمتلك معرفة بسيطة بالمخطوطات القبطية الإثيوبية الوضاءة أو حتى التحف الكيتشية التي تستعين بهذه اللغة. لكن تبقى لوحات "الطلسم" كفن شفائي طلسمي ومعرفة غامضة متسيداً. لفت انتباهي مدى اختلاف منطق هذه اللوحات والقوة التي تحملها كأشياء يتردد صداها، إذ بدت لامعة، دائرية، ودقيقة في أشكالها المجردة، فهذه اللوحات الفنية المعقدة والمتاهية تُرسم  بدايةً بقلم رصاص أو بالحبر الأسود، ثم يتم تلوين قسم منها بشكل مكثف، بينما يكون الآخر أقل كثافة لتسليط الضوء على النقاط الحيوية فيها. تضم هذه اللوحات الصغيرة إحساساً بالنطاق الكوني والمكاني، ممزوجاً  بعناصر شامانية ولمسات معاصرة متقنة تبعث على الدهشة.

 

لم يخبرنا هينوك بالكثير عن طبيعة أعماله أو كيفية صنعها. لكن من خلال إليزابيث ودغماوي، عرفت أن والده وجده كانا من فناني الطلسم، وأنه ورث عنهما هذه اللغة والفلسفة التاريخية التي تكتنفها بعض السرية. ومع ذلك، شعرت أن لوحاته فريدة ومختلفة تماماً عن أي شيء رأيته من قبل. على الرغم من ارتباط أعمال هينوك بتاريخ طويل من قصص الخلق والمعرفة، إلا أنها تعكس أيضاً الزمان والمكان الحاليين، وتعتبر من أبرز وأعمق الأعمال الفنية التي لفتت انتباهي خلال زيارتي لإثيوبيا.

 

منذ بداياتي في عالم الفن، بذلت جهداً كبيراً في فهم النظريات المعرفية خارج إطار العلمانية العقلانية الغربية والحداثات العلمية، حيث درست الرسم الطلسمي التقليدي الإثيوبي، والنقوش الجدارية ولوحات القبور في مصر القديمة، وكهوف البوذيين في القرنين الرابع والخامس في دونهوانغ غرب الصين، وتاريخ رسم اليانترا في الهند، وكذلك النظريات المعرفية المختلفة للسكان الأصليين في الأميركيتين. هذه الأشكال المتنوعة من الرؤى والأساليب والفلسفات أثرت في هويتي كفنانة وفي فهمي للممارسة والتفكير والرسم المعاصر. استفدت من كل هذه الأشكال المعرفية كمصادر في عملي ومسيرتي الإبداعية. وبما إننا شهدنا وجربنا إخفاقات الحداثة الطوباوية والدولة القومية والنيوليبرالية التي تعرض جنسنا وكوكبنا للخطر الداهم، يتجه كثرٌ منا نحو أشكال أخرى من المعرفة لتصور وابتكار ممارسات تحررية جذرية جديدة بغية الكشف عن بدائل محتملة ومستقبلية. وكما تجادل إليزابيث ببراعة، لا يوجد سبب لاستبعاد رسم "الطلسم" وأعمال هينوك من تاريخ الحداثة والمعاصرة.

 

يلعب كل من الفن والموسيقى والأدب والشعر والرقص دوراً تراكمياً في بناء ملامح من حياتنا المعاصرة والمستقبلية، ودمج أجزاء من ماضينا مع ابتكارات جديدة. يهدف هينوك  في لوحاته إلى تقديم فوائد علاجية وشفائية ليس لفئة من الأفراد والمجتمعات فقط، بل أيضاً على مستوى أوسع يشمل الجنس البشري بأكمله والكوكب نفسه. يستفيد هينوك من لغته ومعرفته الموروثة لتحقيق ذلك، مع إنشائه شكلاً جديداً حيوياً ومذهلاً من رسم "الطلسم" والجماليات في إثيوبيا المعاصرة.