صلاح م حسن
"أن تكون حرًّا!"، هو عنوان المعرضالإستعادي الشامل لإبداعات الفنّان التّشكيلي الجّنوب إفريقي غافن يانتس المقيم في أكسفورد بالمملكة المتحدة، والذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون احتفاءً بالإنجازات المبدعة التي ميّزت حياته وعمله. يلخّص هذا المعرض مسيرته المهنية التي امتدّت لخمسة عقود، نشط فيها يانتس كفنان تشكيلي وناشط إبداعي ومفكر هائل وقيّم فني. يُبرز معرض " أن تكون حرًّا" الأدوار المتعدّدة التي لعبها يانتس، داخل وخارج استوديو الرّسم وساحات المعارض، من خلال الجّمع بين لوحاته ومطبوعاته على الشّاشة الحريرية ورسوماته، بالإضافة إلى المواد المتعلّقة بعمله كقيّم، وكاتب وناشر.
يوضّح المسار الفنّي والفكري لـيانتس السّعي الدّؤوب نحو الحرّية، والذي كان في قلب النّضال لتحرير السّود على مستوى العالم بأكمله. تشكّلت كل جوانب مسيرة يانتس المهنية كفنان تشكيلي وناشط خلال سنواته الأولى في مدينة كيب تاون من خلال التّعاطي مع سياق نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. لقد برز النّضال من أجل الحرّية في البلاد إلى الواجهة خلال المعركة الطّويلة ضد قوانين نظام الفصل العنصري المروّع، والذي استمر قائماً حتى بداية التّسعينيات من القرن الماضي. وانتهى ذلك النّظام السّياسي البشع في عام 1992 بصورة رمزية تمثلت في إطلاق سراح الزعيم المناضل نيلسون مانديلا، مع رفاقه، من سجنهم الذي امتدّ لسنوات طويلة.
اتّسم السّعي إلى التّحرّر في مشهد الفنّون البصرية في إفريقيا وفي مجتمعات الشّتات الإفريقي بالتّضاد الصّريح بين قوتين متناقضتين شكّلتا الإنتاج الفنّي الإفريقي المعاصر والحداثي، وكذلك الإنتاج الفنّي العالمي للسّود – وهم "السّعي إلى الحرّية الفنّية" و"عبء التّمثيل". يُجسّد هاتين القوتين المقال الكلاسيكي الذي كتبه الشّاعر الأمريكي من أصل إفريقي، لانقستون هيوز في عام 1926 بعنوان "الفنّان [الزّنجي] [الأمريكي من أصل أفريقي] والحاجز العنصري"، عندما يدعو بحماس دافق إلى أن "الفنّان يجب أن يكون حرًّا في اختيار ما يفعله، بالتّأكيد، ولكن يجب عليه أيضًا ألا يخاف أبدًا من فعل ما يجب عليه اختياره." بالتّأمل فيما أطلق عليه "الحاجز العنصري"، باعتباره عقبة أمام أي فن أسود حقيقي في أمريكا، يجادل هيوز ضد الرّغبة العارمة لدى الفنّانين والكتاب المبدعين السّود بالتّماهي مع "ثقافة الرّجل الأبيض" (البياض)، أي "الرّغبة في صب الفردية العرقية في قالب المعيار الأمريكي الموحّد"، وأن نصبح ذلك "الزّنجي الصّغير" أمريكياً على بقدر المستطاع."[i] كما أنه يتصدّى لمثل هذه الرّغبة من خلال دعوته للفنّانين السّود ليكونوا أحراراً داخل أنفسهم بأي ثمن. ويتبلور هذا في بيانه الشّهير الذي يعتبر بمثابة بيان ( منيفستو) لمستقبل الحرّية الفنّية السّوداء[ii]:
" نحن؛ الفنّانون [الزنوج] [الأمريكيين من أصل إفريقي] الأكثر شباباً، والمنخرطون الآن في عمليات الإبداع، نرغب في أن نُعبّر عن ذواتنا الفردية ذات البشرة السّوداء بدون خوف أو خجل. فإذا كان ذلك يفرح النّاس البيض سنكون نحن سعداء بالطّبع بذلك. وإن لم يكونوا فرحين بذلك، فهذا أمر لا يعنينا البتة. نعرف جيداً أننا جميلون. وقبيحون أيضًا. إيقاع التم توم يبكي ...ويضحك أيضًا. إذا كان الملونون سعداء فنحن سنكون سعداء أيضاً. إذا لم يكونوا كذلك، فإن استيائهم لا يهم أيضاً. إننا نبني معابدنا من أجل الغد، نبنيها قوية لأننا نعرف كيف نبنيها، ونقف على قمة الجّبل، أحراراً في أنفسنا".
توسّعت دعوة هيوز للحرّية الفنّية بشكل أكبر من خلال الصّياغة الشّهيرة لمؤرخ الفنّ والكاتب كوبينا ميرسر عن "عبء التّمثيل"، وهي المعضلة التي واجهت الفنّانين والفاعلين المبدعين في إفريقيا ومجتمعات الشّتات الإفريقي، ووضعت قيودًا على التّلقّي والتّمثيل وتأويل أعمالهم الإبداعية في العديد من المجالات. ويجادل ميرسر بأن هذا الوضع قد أدى إلى ظهور "شعور بالإلحاح" لأن "إعادة الإنتاج الثّقافي لعنصرية معينة يعتمد هيكلياً على تنظيم مسألة الظّهور الفعلي للسّود في الفضاء العام"[iii]. وفرض هذا الوضع بدوره المزيد من القيود على توقّعات الفنّانين السّود وكذلك على تلقّي إنتاجهم الإبداعي.
وكما يجادل ميرسر ببراعة، فإن مثل هذا الوضع المتناقض "ليس فريداً بأي حال من الأحوال، ولكنه يتعلّق على نطاق أوسع بـ "إشكالية" بنيوية بكاملها، كان على الفنّانين السّود العمل ضمن إطارها". ويوضح كذلك[iv]:
عندما يوُضع الفنّانون على هامش المشهد المؤسّسي للإنتاج الثّقافي، فإنهم يتورّطون في حمل عبء المهمّة المستحيلة المتمثّلة في التّحدّث "كممثلين"، بحيث يُتوقع منهم، على نطاق واسع، أن "يتحدّثوا باسم" المجتمعات المهمّشة التي يأتون منها.
ومن هنا جاء عنوان المعرض الاستعادي لأعمال يانتس: "أن تكون حرّاً، إذ يرمز لتصميم العديد من الفنّانين والكُتّاب في جنوب إفريقيا، بما في ذلك يانتس نفسه، على استكشاف جميع أشكال التّعبير الفنّي والجّمالي بحرية كاملة غير منقوصة، وغير مقيّدة بنظرة المركزية الأوروبية وضوابطها المُقرِّرة لما يجب أن تكون عليه الأدوار التي يتوجّب على الفنّانين السّود القيام بها، أو ما يفترض أن يكونوا عليه. بالنّسبة إلى يانتس، كان هذا يعني حياة التّجوال بين المنافي في أوروبا، والتي تجلّت في أدواره المتعدّدة في مجال الفنّون البصرية المعاصرة.
تعد أفكار التّغيير والتّحرّر الفنّي من المواضيع الرّئيسية لهذا المعرض. إنها تربط بين التّحولات التي يواصل يانتس القيام بها بصورة مستمرة مع تطور أفكاره وممارسته في مرسمه على مر السّنين. يتتبّع مسار هذا المعرض الاستعادي مساهمات يانتس داخل وخارج الاستوديو، ويكشف عن رغبته في إحداث فرق مجتمعي وتغيير كيفية تفاعل المشاهدين مع الفنّ وتاريخه. ولكي يتطوّر كفنان محترف، كان على يانتس أن يواجه العقبات المزدوجة المتمثّلة في العرق والفقر، بالإضافة إلى الافتراضات المهينة التي تُطلقها قوانين الحداثة الأوروبية الغربية بأن الأفارقة يفتقرون إلى القدرة على إنتاج فن بصري معاصر ذي معنى. لقد واجه هذه المشكلات منذ بداية حياته الفنّية، مما أدّى إلى حضوره الواسع كفنان وناشط في عالم الفنّ العالمي.
انخرط يانتس، بصفته فنانًا وناشطًا، بشكل مباشر، في التّوترات بين الحداثة الغربية والفنّ الإفريقي الكلاسيكي، ونمطية “البدائية” في الخطابات التّاريخية الفنّية الصّادرة عن المركزية الأوروبية. لقد فعل ذلك، ليس فقط من خلال تدخلاته العامة بصفته قيّماً ومفكراً وكاتباً، ولكن أيضاً كرسّام. يبتعد اشتغاله بتناقضات الترّكيز على البصري في الحداثة الاستعمارية عن حجج كوبينا ميرسر الخاصة ضد تفسير خطاب "ما بعد الاستعمار" على أنه العودة إلى خطاب رد فعل الذّات والآخر”. بدلاً من ذلك، يستكشف يانتس سياق علاقات القوة التّفاضلية بين الحداثة الاستعمارية وما بعد الاستعمار[v]. ومن هنا جاء اختيار يانتس للعمل: بدون عنوان (1989)، كأحد الأعمال الرّئيسية التي تعتبر نموذجية لتوضيح مساهماته النّقدية في الخطابات الفنّية التّاريخية للحداثة، في سياق هذا المعرض. في هذا العمل الرّمزي، الذي ظهر في العديد من المطبوعات الهامة حول دراسات ما بعد الاستعمار، ينبثق حبل سرّي ابيض اللون من مكان الفم في قناع ذي خطوط حادة ومستطيلة، يذكّرنا بالتّقاليد الفنّية لشعوب الفانق في الجّابون، ويحيط الحبل، وهو يحيل إلى روح أو نفس الحياة، بشكل امرأة مقنّعة، مأخوذة من لوحة بيكاسو "آنسات أفينيون" (1907)، ومن ثمّ يعود ليلتحم بالقناع من مكان فتحة الأنف. هذا الرّبط بين القناع والمرأة المقتبسة من بيكاسو يفصح عن مهمّة يانتس في الإعلاء من أهمية الفنّ الإفريقي الكلاسيكي، الذي كان وما فتئ يعتبر مُلْحَقاً وتابعاً للحداثة الغربية. وبذلك، يطرح يانتس منظوراً تاريخياً لفن ما بعد الاستعمار يتجاوز حالة الانشطار الثّنائي القطب بين الاستيلاء الثّقافي والإقصاء.
لأكثر من 50 عاماً، انخرط يانتس في مجال الفنّون البصرية، كفنان في المقام الأول، ولكن أيضاً بصفته قيّما، ومديراً فنّيّاً، ومحاضراً، ومؤرّخاً. على المستوى العالمي، تُعرف مطبوعاته على الشّاشة الحريرية ولوحاته ومشاريعه كمقيّم معارض فنّية، بالإضافة إلى كتاباته، بأنها تعزز خطاب الفنّ الإفريقي ومجتمعات الشّتات الحديث والمعاصر، وتوطد تمثلاته. عند النّظر إليها معاً في سياق هذا المعرض، فإن هذه التّجلّيات المتعدّدة لمسيرة يانتس المهنية تؤكّد الأدوار الرّائعة التي لعبها كعنصر فاعل ومؤثّر في عملية التّغيير. كان طموح يانتس الشّخصي، وما زال، يتمحور حول إحداث فرق حاسم، سواءً كان ذلك من خلال إدخال تحسينات على ممارساته الفنّية، أو على توجّهات المتاحف والمعارض والمؤسّسات الثّقافية، أو من خلال المساهمة في الفهم والعالمي للفنّ الإفريقي. في السّياق الأوسع للفنّ الإفريقي المعاصر، يبدو أن يانتس في حالة حركة مستمرة، وكذلك الحال مع أعماله الفنّية ونشاطاته الأخرى. وكل ذلك يؤكّد الافتراض القائل بأن الفنّانين الأفارقة وأفارقة المهجر عمومًا قد لعبوا دورًا في المساهمات الفكرية والنقدية للفنّ الإفريقي المعاصر. وبالتّأمل في مسيرته المهنية في ساحة الفنّ العالمي، يقول يانتس، وهو الآن في السّبعينيات من عمره، بإيجاز إن حياته "لا تزال تتوقّف على فكرة تفعيل التّغييرات التي تعيد صياغة دور أفريقيا في الثّقافة العالمية."
نحو خطّة لتنظيم المعرض
يركز هذا المعرض الاستعادي على مساهمة يانتس الكبيرة في الفنّ المعاصر. و التي تشمل وتغطي أربعة فصول متميزة من مسيرته الفنّية، من عام 1970 إلى عام 2019. وهذه يمكن تلخيصها فيما يلي:
يركّز الفصل الأول على نجاح يانتس كصانع لوحات وملصقات مطبوعة على الشّاشة الحريرية وكملوّن بارع، مع الترّكيز الخاص على دوره في النّضال ضد نظام الفصل العنصري في السّبعينيات وحتى منتصف الثّمانينيات. ويركز الفصل الثّاني على دوره في تغيير وجهة مدارس الفنّون والمتاحف والمعارض وهيئات التّمويل الوطنية في المملكة المتّحدة، يضاف إلى ذلك، إنجازاته كقيّم معارض فنّية وقائد لمؤسّسات مختلفة في أوروبا. ويسلّط الفصل الثّالث الضّوء على ممارساته كرسّام منذ منتصف الثّمانينيات وحتى أواخر التّسعينيات، حيث تناول تاريخ الإنسان الأسّود ومساهماته الثّقافية وإرثه المعقد في السّاحة العالمية. وأخيرًا، يعرض الفصل الرّابع إنتقاله الأخير إلى الرّسم غير التّشخيصي، مثل سلسلته " الظّاهري" "إكسوجينيك" (2017)، وسلسلتي "ويتني" و"الشارقة" (2021 – مستمرة حتى الآن)، بالإضافة إلى الأعمال التي يواصل تقديمها كجزء من ممارسته المستمرة في المرسم.
الطّباعة على الشّاشة الحريرية
قلبت مطبوعات يانتس المبكرة أساليب الإنتاج العادية للطّباعة على الشّاشة الحريرية من صورة واحدة متكرّرة على عدد محدود من الأوراق، التي عليها توقيع الفنّان، إلى شيء أكثر إبداعًا. لوحته المميّزة، "دفتر جنوب إفريقيا الملوّن" (1974)، صُممت في الواقع لاستخدامها ككتاب وليس كعمل فني يعلّق على الحائط. يتضمّن هذا العمل قائمة مراجع لمزيد من القراءة، ويهدف إلى تغيير الخطاب حول فن جنوب إفريقيا في أوروبا والغرب، من الغير سياسي إلى السياسي بشكل علني. من خلال إنشاء أرشيف جذري للحياة اليومية في وطنه، لم تركّز مطبوعاته على الشّاشة الحريرية، التي تذكرنا بفن البوب، على النّزعة الاستهلاكية للثّقافة الغربية، بل على سياسات العرق والثّقافة والتّاريخ. صمّمت هذه السّلسلة لاستخدامها كأحد مصادر التّعلّم خارج صالات العرض والمتاحف خارج جنوب أفريقيا، وأصبحت أداة للعمل السّياسي والتّغيير. ونتيجة لهذا العمل، أصبح يانتس شخصية غير مرغوب فيها من قبل دولة نظام الفصل العنصري، وأجبر على البقاء في المنفى لسنوات عديدة، حتى نهاية نظام الفصل العنصري في عام 1992.
تعلّق يانتس بالتّقنيات الجديدة للطّباعة على الشّاشة الحريرية التي قدّمها فنانو البوب العالميون في تحدي واضح لتقاليد صناعة الطّباعة. لقد أضفت النّسخ المطبوعة على الشّاشة الحريرية في سبعينيات القرن العشرين طابعاً ديمقراطياً على الفنّ، وذلك من خلال قلب التّقليد الحداثي لعمل "أصلي" واحد ونادر، من خلال إعادة الاستنساخ الميكانيكي إلى نسخ عديدة متكرّرة، مما أدى إلى تفكيك فكرة الأصالة والملكية وحق المؤلف. وبذلك استطاع يانتس أن يعرض نفس الصّورة في وقت واحد في معارض متعدّدة، كما فعل في كثير من الأحيان. تتناول المواضيع المضمّنة في مطبوعاته على الشّاشة الحريرية مواضيع مثل العبودية والحقوق المدنية والنّضالات الإفريقية ضد الاستعمار والتّعليم والهوية الثّقافية.
من الصّورة التّشخيصية إلى غير التّشخيصية
بعد دراسته في كلية الفنّون الجّميلة (Hochschule für Bildende Künste)، في هامبورغ (1970-1974) وتنظيمه لمعرضه النّاجح في معهد الفنّون المعاصرة (ICA)، لندن (1976)، بدأ يانتس في التّحوّل للرّسم والتّلوين وتجريب خامات أخرى. يجدر بالذّكر أن يانتس لم يتلق تدريباً رسمياً في التّلوين، لذلك جاء هذا التّغيير في أسلوب تنفيذ العمل الفنّي والخامات المستخدمة في ذلك بمثابة استقصاء لأفكاره الاجتماعية حول دور الفنّ في الثّقافة، وبقدر ما، كان أيضًا اختبارًا لمهاراته في استخدام الخامات الجديدة. بالنّسبة لفنان مثله يتشكّك ويساءل الوضع الرّاهن باستمرار، كان ذلك التحوّل بمثابة إعادة ابتكار للذّات المبدعة، وله أهمية أكبر بكثير من مجرد الاستمرار في تكريس أسلوبه السّابق، بحيث شكّل هذا التّغيير تحديًا لكل جانب من جوانب عمله، بما في ذلك موقعه الجّغرافي.
كانت معظم لوحات يانتس المبكرة تشخيصية الطّابع، وتتناول موضوعات لا تختلف كثيراً عن الموضوعات التي اشتغل عليها في مطبوعاته السّابقة على الشّاشة الحريرية. ولكنه سرعان ما أبدل الخطابية المباشرة بالرّمزية. وفي نهاية الثّمانينيات بدأت رسوماته تفصح عن نقلة جديدة مبتعدة عن السّردية لتقترب من الاستعارة والشّاعرية. وبدأت تختفي العناوين التي لعبت دوراً تأويلياً ملحوظاً في أعماله السّابقة. منحه هذا الإصرار العنيد على الاستعارة حيّزاً واسعاً للتّأويل، وفيما بعد بدأ يانتس ينصرف كلياً عن إطلاق العناوين على أعماله، معلّلاً ذلك بأنها تُصرِف المشاهد عن النّظر للأعمال بعقل منفتح. تغيّر منهجه في العمل نتيجة لذلك، كما تغيّر قياس اللّوحات لضرورته في إيضاح أفكاره الجّمالية، معتقداً أن القياس الكبير للعمل يجعل المشاهدين يستغرقون في فعل النّظر إلى العمل الفنّي، وهي حقيقة أثّرت في الكيفية التي يرسم بها. ثم بدأ في تنفيذ مجموعات متسلسلة، بحيث يعمل على تطوير أفكاره ومواضيعه على عدة لوحات من القماش. وتعتبر بعض من أعماله المشهورة، كسلسلة " كوربرا"، و"زولو" و "الظّاهري"، أمثلة واضحة لتحوّله إلى استخدام أسلوب مغاير ومقاربة جديدة للعمل الفنّي.
الحياة بعيدًا عن استديو الرّسم - التّجوال والنّشاط في الشّأن العام:
انتقل يانتس، منذ السّبعينيات، من مدينة الكاب إلى هامبورج في ألمانيا، ومنها لاحقاً إلى لندن وغرب إنجلترا، حيث مارس نشاطه الفنّي في الثّمانينيات والتّسعينيات. وأقام أيضاً في أوسلو ما بين 1998 و2018، باستثناء عام 2006، حيث عاد إلى جنوب افريقيا. يقيم يانتس الآن في المملكة المتّحدة حيث أسّس مرسمه في أوكسفوردشير بالقرب من مدينة أوكسفورد. من الواضح أن حياة المنفى السّياسي قد صنعت من يانتس شخصاً متجوّلا أشبه بالبدو الرّحل الذين عاشوا حياة متنقلة بكل معنى الكلمة، ولم يتنقّل بين البلدان والمواقع المختلفة فحسب، بل دخل عالم الفنّ من خلال لعب أدوار مختلفة، بما في ذلك دور القيّم والوسيط الثّقافي في المؤسّسات.
في مستهل التّسعينيات تحول يانتس من تركيزه على الأفكار السّياسية وتوجّه إلى تقصّي علل المؤسّسات الثّقافية. وابتدرت أعماله ومطبوعاته على الشّاشة الحريرية نقاشاً موسّعاً حول قصر نظر المؤسّسات الغربية والأوروبية في تناولها للفنّ. انهمك يانتس بصورة أكبر في السّعي إلى تغيير الاتجاهات التي التزمت النّمط السّائد في أوروبا للاقتناء وعرض الأعمال الفنّية غير الأوروبية وتحديداً من الجّنوب العالمي. وتُشكّل كتاباته جزءاً من الأصوات النّاقدة، خاصة من بريطانيا، والتي نشطت في مواجهة شرائع الفنّ وتاريخ الفنّ الرّاسخة في أوروبا وإفريقيا.
ولممارسة ما نادى به حول التّنوع والعلمانية، لجأ إلى أن يعمل كقيّم للمعارض التي تحتفي بمظاهر الحداثة العالمية. وقد نافح من أجل عالمية الفنّ الشّاملة من خلال تنظيم معارض في كل من صالة وايتشابل، هيوارد في لندن، وصالة إيكون في بيرمنجهام. وقد تم تعيينه كبير محاضرين، كأول أسود محاضر أسود، في قسم الفنّون الجميلة في كلية تشيلسي للفنّون (1986-1998)، كما عمل في مجلس أمناء صالات سيربنتين، ووايتشابل والتّيت في تلك الفترة. وفي العام 1998 تم اختياره مديراً فنياً لمركز هيني أونستاند، أوسلو (1998-2004)، وبعدها تم تعيينه قيِّماً أول في متحف النرويج الوطني (2004-2014). طوال هذه الفترة، ومن خلال عمله في صالات العرض والمتاحف وفي المحاضرات العامة وكتالوجات المعارض التي قام بتنظيمها، ظلّ يانتس يروّج لفكرة الاختلاف الثّقافي والتنوّع.
في العام 2014، عاد إلى العمل من مرسمه لمواصلة رسوماته مانحاً نفسه تحدياً جديداً لإعادة النّظر في دوره كفنان. ساهمت سنوات العمل كقيّم والانخراط في الكتابة والتّدريس معاً في تغيير أرائه في الفنّ مجدّداً، وتطوير بدائل أخرى جديدة حول الفنّ. في عصر التّصوير الرّقمي السّريع وتبادل المعلومات بسرعة مفرطة، كان لابد للوحاته الأخيرة أن تأتي مشبّعة بالسّكون الجّذري الذي ينشأ من غياب أي موضوع يمكن التّعرف عليه أو غياب أي مراجع بصرية. كما غابت سياسات ما بعد الاستعمار، والهوية والفوارق الثّقافية، التي كانت تنبض بها اعماله الأولى، وتم استبدالها بصور تطرح تساؤل المشاهد وعلاقته بالعمل. لقد أدى التّحول في تركيزه، من العقلي إلى البصري، إلى تغيير الطّريقة التي يتلقّى بها المشاهد أعماله الأخيرة.
وفوق كل ذلك، كان يانتس يدرك أن حرية التّعبير يجب أن تتضمّن أن يكون للمشاهدين الحق في أن يقرّروا ما يعنيه العمل الفنّي بالنّسبة إليهم. لم يعد يانتس راغباً في أن يُعلّم أو يسرد أو يصف. ولذلك صارت فكرة حرية التّعبير تتخلل رسوماته الأخيرة وتُشكّل تكويناتها. تتحدّى أعمال يانتس الأخيرة إمكانية تأويلها، وفي ذلك صدى لتحدّي سوزان سونتاج في الدعوة لقبول اللوحات كما هي أو كما يتوقّع أن تكون عليه. إن التّغيير الذي شهدته أعمال يانتس الأخيرة يدعونا إلى إعادة النّظر في توقّعاتنا للفنّ في عصر العولمة. وتستنطق أعماله هذه دور الفنّ وقيمته في عالم اليوم، بجانب تحدّيها للمزاعم التي تقول بأن تنفيذ اللوحات غير التّشخيصية هي امتياز لا يطاله الفنّان الإفريقي.
إن فهم يانتس لدوره كفنان قد ترسّخ منذ سنوات تكوينه الأولى في ستينيات مدينة الكاب في جنوب افريقيا، عندما كانت عنصرية دولة نظام الفصل العنصري تهيمن على كل جانب من جوانب حياته. ومنذ ذلك الحين، وكما تُظهر رحلته الفنّية، ومن خلال عمله كرسّام وناشط، ظل يتساءل ويستقصي ليس فقط التّناقضات في حياته، بل أيضاً عمّا يعنيه أن يكون مبدعاً خلّاقاً. هذا ما جعله ناقداً جريئاً ومبدعاً للتّفرقة العنصرية المؤسّسية وأشكال التّفرقة الأخرى، وجعلت منه ذلك الفنّان الذي يتساءل دوماً: ماذا لو؟ هذا السّعي الاستقصائي سمح ليانتس أن يكون حراً بالمعنى الشّامل للكلمة.
المطبوعات والمعروضات المصاحبة:
سيصاحب المعرض إصدار كتاب يشمل صور للأعمال المعروضة إلي جانب مقالات لكل من صلاح محمد حسن، بريمش لالو، كيندال جيرز، اليسون يونغ وغافن يانتس ومواد أخرى، بجانب حوار مطوّل مع الفنّان. وسينشر الكتاب بالاشتراك مع دار نشر سكيرا. بالإضافة إلى ذلك، سيتضمّن المعرض عرضاً بالبث الرّقمي لفيديو وثائقي مدته 45 دقيقة، من إنتاج استديو 3 في أوسلو، ويحتوي على لقطات نادرة لأعمال يانتس كقيّم، ولمحاضرات و حوارات جمعته مع نقّاد من إفريقيا والعالم الغربي. ويظهر في الفيديو الوثائقي فنّانون عالميون عملوا أو تعاونوا مع يانتس خلال مسيرته الفنية.